فبراير 2024

موضوع العدد (2)

يونان: انحدار، ودخول، وذهاب، ومقاومة

بقلم: بول بالمر

انحدار

«وَصَارَ قَوْلُ ٱلرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلًا: قُمِ ٱذْهَبْ إِلَى نِينَوَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي» (يونان 1: 1-2). وردت عبارة «قَوْلُ ٱلرَّبِّ» ثلاث مرات في سفر يونان (يونان 1: 1؛ 3: 1، 3). يشير العدد “3” في الكتاب المقدس إلى الكمال الإلهي. «وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلْأَبَدِ» (1بطرس 1: 25)، ولذلك علينا أن نَقبَلها ونطيعها.

لم يكن «قول الرب» غريبًا على يونان. فقد كان «عبدًا» و«نبيًّا» لله (2ملوك 14: 25).  أعطى الرب قوله (أو كلامه) إلى يونان، وهذا امتياز عظيم، تصحبه مسئولية كبيرة.  «أَمِتَّايَ»، وهو اسم والد يونان، معناه: “حق الله”، أو “أمانتي”، وهذا يذكِّرنا بأن الله أعطانا الحق. فعندما صلَّى يسوع إلى أبيه، قال: «كَلَامُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا 17: 17).  ولذلك، علينا أن نَقبَل الحق، ونكون أمناء تجاهه. كتب يوحنا يقول: «لَيْسَ لِي فَرَحٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا: أَنْ أَسْمَعَ عَنْ أَوْلَادِي أَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِٱلْحَقِّ» (3يوحنا 4).

أمر الرب يونان بأن يقوم ويذهب إلى نينوى، عاصمة آشور.  كانت هذه المدينة عظيمة من حيث المساحة، ومن حيث الشر أيضًا.  وكما هو الحال الآن، يُحمِّل الله الأفراد، والمدن، والدول مسئولية خطاياهم. كان شرُّ هذا الشعب عظيمًا لدرجة أن الله كان على وشك أن يوقع عليهم الدينونة. لكن قبل أن يفعل ذلك، أرسل يونان كي «ينادي على» المدينة (يونان 1: 2).

وفي فعل عصيانٍ، «قَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ» (يونان 1: 3).  كانت مدينة نينوى باتجاه الشرق، لكن يونان اتجه غربًا، هاربًا إلى أبعد ما يمكن من وجه الرب.  لكن، ما من سرور أو فرح على الإطلاق لأي شخص يزدري بحضور الله. قال داود: «أَمَامَكَ [في محضرك] شِبَعُ سُرُورٍ» (مزمور 16: 11).  ومع أن يونان كان في طريق الانحدار، لم يستطع الهروب من عيني الله، لأن الله يرى ويعرف كلَّ شيء (انظر عبرانيين 4: 13؛ مزمور 139: 7-12).

ذهب يونان في الطريق التي اختارها لنفسه، لكن يسوع كان مختلفًا.  فحين أرسله أبوه، قال: «لِأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لَيْسَ لِأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 6: 38)؛ وقال أيضًا: «هَأَنَذَا أَجِيءُ لِأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا ٱللهُ» (عبرانيين 10: 9).  وقد صلَّى في جثسيماني، فيما كان مقبلًا على الصليب، قائلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ ٱلْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لَا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لوقا 22: 42).

وإذ تصرف يونان وفقًا لإرادته، دفع الثمن [“فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا”] (يونان 1: 3).  فإن الهروب من وجه الرب سيكلِّفنا ثمنًا باهظًا.  والخسارة الأكبر هي فقدان شركتنا مع المسيح، لكن أيضًا فقدان شركتنا مع المؤمنين الآخرين.  فعندما هرب يونان على متن السفينة، لم يتمتَّع بأي نوع من الشركة.  فإننا نجده هناك بمفرده، كما كتب بولس يقول: «لِأَنَّهُ أَيَّةُ خُلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلْإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ؟» (2كورنثوس 6: 14).

«فَأَرْسَلَ ٱلرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى ٱلْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي ٱلْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ ٱلسَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ» (يونان 1: 4). وُصِفت أربعة أشياء في هذا الأصحاح (يونان 1) بأنها “عظيمة”: «ٱلْمَدِينَةِ ٱلْعَظِيمَةِ»، و«رِيحًا شَدِيدَةً [عظيمة]»، و«نَوْءٌ عَظِيمٌ»، و«حُوتًا عَظِيمًا» (يونان 1: 2، 4، 12، 17).  أرسل الرب يونان إلى تلك «المدينة العظيمة»، لكنَّ النبي عصى أمر الرب، في حين أطاعت «الريح الشديدة» التي أرسلها الرب، فأحدثت «نوءً عظيمًا». كذلك، أطاع «الحوت العظيم» أمر الرب.

يرمز البحر المذكور في يونان 1 إلى عالمنا اليوم.  فإن البشر دون الله، أي دون الراعي، ينطرحون هنا وهناك، ولا سلام لهم (متى 9: 36؛ إشعياء 57: 20-21).  وبالمثل، «خَافَ ٱلْمَّلَاحُونَ وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى إِلَهِهِ» (يونان 1: 5).  بدا الأمر كما لو أن كلَّ واحد منهم له إله مختلف!  فإنهم كانوا جاهلين بالإله الحي والحقيقي، الذي وحده يستطيع أن يغيِّر أحوالهم وظروفهم، لأنه حتى الريح والبحر يطيعانه.  ففي عالم يسوده الاضطراب والفوضى، يستطيع المؤمن بالرب يسوع أن يكون له «سَلَامُ ٱللهِ»، وذلك لأن له «سَلَامٌ مَعَ ٱللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 4: 7؛ رومية 5: 1).

لم يكن يونان مكترثًا على الإطلاق بما يدور حوله، بل «نَامَ نَوْمًا ثَقِيلًا» (يونان 1: 5)، بسبب عصيانه للرب.  والكثير من المؤمنين اليوم نائمون مثل يونان، ويشبهون الأموات بحقٍّ.  فإن غير المؤمنين أموات بالفعل (أفسس 2: 1)، أما نحن المؤمنون، فينبغي أن نشبه الرب يسوع أكثر فأكثر.  قال بولس: «ٱسْتَيْقِظْ أَيُّهَا ٱلنَّائِمُ وَقُمْ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ» (أفسس 5: 14).

«فَجَاءَ إِلَيْهِ [إلى يونان] رَئِيسُ ٱلنُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ ٱصْرُخْ إِلَى إِلَهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ ٱلإِلَهُ فِينَا فَلَا نَهْلِكَ» (يونان 1: 6؛ انظر 1ملوك 18: 26-28).  إن إلهنا يسمع الصلاة ويجيبها.  فإنه قال: «اُدْعُنِي فَأُجِيبَكَ وَأُخْبِرَكَ بِعَظَائِمَ وَعَوَائِصَ لَمْ تَعْرِفْهَا» (إرميا 33: 3).  بل إن إلهنا عظيم لدرجة أنه قال أيضًا: «وَيَكُونُ أَنِّي قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ، وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ» (إشعياء 65: 24).  لكن للأسف، حتى الآن، لا نرى يونان يصلِّي، لأنه كان بالفعل خارج دائرة شركته مع الله.

قال الملاحون، إذ أرادوا أن ينجوا بحياتهم: «هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعًا لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هَذِهِ ٱلْبَلِيَّةُ. فَأَلْقَوْا قُرَعًا، فَوَقَعَتِ ٱلْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ» (يونان 1: 7).  ممَّا لا شك فيه أن سلطان الله هو الذي جعل القرعة تقع على عبده. وعندئذ، طرح عليه الملاحون خمسة أسئلة (يونان 1: 8):

 

  1. «أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هَذِهِ ٱلْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟» كان يونان هو المذنب.
  2. «مَا هُوَ عَمَلُكَ؟» أجاب يونان، عبدُ ونبيُّ الرب، قائلًا: «أَنَا خَائِفٌ مِنَ ٱلرَّبِّ» (يونان 1: 9). إن الرب يسوع يريد أن ننشغل به حتى مجيئه (انظر لوقا 10: 38-42). وماذا عنك؟  ما هو عملك؟
  3. «وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟» نحن جميعًا أتينا من آدم، الإنسان الأول، وبمعصيته جُعِلنا خطاة (رومية 5: 12). لكن نشكر الله على الإنسان الثاني، الرب يسوع، لأنه بإطاعته «سَيُجْعَلُ ٱلْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا» (رومية 5: 19). أجابهم يونان قائلًا: «أَنَا عِبْرَانِيٌّ» (يونان 1: 9).
  4. «مَا هِيَ أَرْضُكَ؟» عزيزي المؤمن، هل تَعلَم أنه يوجد وطن أفضل بكثير من الوطن الذي تعيش فيه اليوم؟ إنه «وَطَنًا … سَمَاوِيًّا» (عبرانيين 11: 16). «إِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، ٱلَّتِي مِنْهَا أَيْضًا نَنْتَظِرُ مُخَلِّصًا هُوَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (فيلبي 3: 20).
  5. «وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ؟» إننا «شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ» لله، «مُخْتَارٌ مِنَ ٱللهِ كَرِيمٌ» (1بطرس 2: 9، 4). أشار يونان إلى خلفيته العبرانية (يونان 1: 9)، ويبدو أنه كان يفتخر كثيرًا بكونه عبرانيًّا. وعن هذا الأمر، قال معلِّم الكتاب المقدس هاري أ. أيرونسايد (Harry A. Ironside) الكلمات التالية: “كان الكبرياء والتعصُّب هما أساس كلِّ عناده وضلاله. فقد كان يعرف أن الله طويل الأناة، وأنه يُسَر بالرحمة، ولذلك خاف على صيته واسمه”.

ثم توالت المزيد من الأسئلة، مثل: «لمَاذَا فَعَلْتَ هَذَا؟» (يونان1: 10)، لا يمكن أن يوجد أي سبب وجيه للهروب من وجه الرب. فعندما تُرِك يسوع من آخرين، «قَالَ … لِلِٱثْنَيْ عَشَرَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟». فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَارَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلَامُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ»” (يوحنا 6: 67-69).

ثم طُرِح سؤال آخر على يونان: «مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ ٱلْبَحْرُ عَنَّا؟» (يونان 1: 11).  فقد اقتنع الملاحون بأن يونان هو السبب وراء الموقف الذي يجتازون فيه.  كم من المحزن أن يؤثِّر عصيان شخص واحد على الكثيرين.  فقال يونان للملاحين: «خُذُونِي وَٱطْرَحُونِي فِي ٱلْبَحْرِ فَيَسْكُنَ ٱلْبَحْرُ عَنْكُمْ، لِأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هَذَا ٱلنَّوْءُ ٱلْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ» (يونان 1: 12).  أنا على يقين بأن يونان كان يظن، وهو يدفع أجرة السفينة، أنه سينزل في ترشيش بسلامٍ، ولم تكن لديه أدنى فكرة عما سيحدث له بدلاً من ذلك. كلمة “ترشيش” معناها “هي سوف تسبِّب الفقر”. وبالفعل، افتقر يونان. فحقًا، كلما اخترنا الطريق التي تحلو لنا، أدى ذلك إلى هزال وفقر لنفوسنا.

كان يونان هاربًا من وجه الرب، ولكن الرب لم يهرب من يونان، بل كان يفتش على قلب يونان ليردَّه إليه! لكن الوسيلة التي استخدمها الرب كانت مؤلمة لنبيِّه. فإن الحيدان عن طريق الرب لا يسبِّب سوى الاضطراب.  في مقابل ذلك، اختبر التلاميذ في طاعتهم للرب وفي حضوره هدوءً عظيمًا (مرقس 4: 35-39؛ 6: 45-51).

لكن، بدلًا من أن يلقي الملاحون بيونان في البحر، «جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا ٱلسَّفِينَةَ إِلَى ٱلْبَرِّ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، لِأَنَّ ٱلْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ ٱضْطِرَابًا عَلَيْهِمْ» (يونان 1: 13).  فإنهم لم يريدوا أن يفعلوا ما طلبه منهم يونان، لكنهم بالجهد الذي بذلوه كانوا يجذفون ضد مشيئة الرب.  وعندما صار الخطر وشيكًا، «صَرَخُوا إِلَى ٱلرَّبِّ وَقَالُوا: «آهِ يَارَبُّ، لَا نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هَذَا ٱلرَّجُلِ، وَلَا تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَمًا بَرِيئًا، لِأَنَّكَ يَارَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئْتَ»” (يونان 1: 14). كان هذا أول ذكرٍ لصلاةٍ في سفر يونان.  وللأسف، كان يونان لا يزال آنذاك خارج دائرة شركته مع الله، ولم يكترث بأن يصلِّي في ذلك الوقت.

من الواضح أنه عند هذه المرحلة، كان الملاحون الذين صلُّوا هكذا قد أدركوا شيئًا عن الرب.  فقد قال لهم يونان إن الرب هو الذي صنع البحر والبر، وهم أقرُّوا بهذه الحقيقة وبقوة الرب. «ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي ٱلْبَحْرِ، فَوَقَفَ ٱلْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ» (يونان 1: 15).  كانت هذه معجزة عظيمة!  أجل، فإن الريح والبحر يجب أن يطيعا خالقهما.  حقًّا، يا لعظمة إلهنا!  (انظر خروج 15: 11؛ مزمور 107: 25-29).

فلما رأى الملاحون أن البحر الهائج هدأ، «خَافَ ٱلرِّجَالُ مِنَ ٱلرَّبِّ خَوْفًا عَظِيمًا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُورًا» (يونان 1: 16). ينبغي أن نترك للرب الحُكم على ما فعلوه، لأنه هو وحده الذي يستطيع تقييمه.  لكننا متيقنون من أمر واحد، وهو أنهم أدركوا أن آلهتهم لا يمكن أن تضاهي «ٱلرَّبِّ إِلَهِ ٱلسَّمَاءِ ٱلَّذِي صَنَعَ ٱلْبَحْرَ وَٱلْبَرَّ» (يونان 1: 9).

«وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتًا عَظِيمًا لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ ٱلْحُوتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ» (يونان 1: 17).

دخول

 

قبل أن يحاول يونان الهروب من وجه الرب، كان بإمكانه أن يختار المكان الذي يريد أن يذهب إليه.  لكن بمجرد دخوله بطن الحوت، لم يَعُد قادرًا على أن يخطِّط لشيء.  وهناك، تُرِك يونان بالكامل لرحمة الله، في موضعٍ أراد الله أن يلقِّنه فيه بعض الدروس.

فوق متن السفينة، قال قائد النوتية ليونان: «قُمِ ٱصْرُخْ إِلَى إِلَهِكَ» (يونان 1: 6)، لكن الآن، نجد يونان يصلِّي للمرة الأولى «مِنْ جَوْفِ ٱلْحُوتِ» (يونان 2: 1).  كان الرب يسوع، الإنسان الكامل، على الصليب عندما صلَّى قائلًا: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34).  فبغض النظر عن مكاننا، إن أبانا مستعد أن يسمع صلواتنا، ويستجيب لها بحسب مشيئته.

قال يونان: «لِأَنَّكَ طَرَحْتَنِي فِي ٱلْعُمْقِ فِي قَلْبِ ٱلْبِحَارِ، فَأَحَاطَ بِي نَهْرٌ. جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ» (يونان 2: 3).  كان هذا ما اختبره الرب يسوع، حيث تقول النبوة في مزمور 42: 7، «كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ». فإن اختبار يونان في بطن الحوت يُعَد إشارة مباشرة إلى الرب يسوع.  قال يسوع نفسه: «لِأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ، هَكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلْأَرْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَال … وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هَهُنَا!» (متى 12: 40-41).

فبينما كان الرب يسوع على الصليب، طمت عليه كلُّ تيارات الله ولججه.  وبالإيمان نسمعه يصلِّي قائلًا: «خَلِّصْنِي يَا ٱللهُ، لِأَنَّ ٱلْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي. غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ، وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ ٱلْمِيَاهِ، وَٱلسَّيْلُ غَمَرَنِي» (مزمور 69: 1-2).  من منا يقدر أن يقيس قدر الآلام التي تلقَّاها الرب يسوع من يدي الله القدوس خلال ساعات الظلمة الثلاث؟  فإنه يتعذر علينا تمامًا إدراك هذا النوع من الألم.

وفيما كان يونان يصلي في بطن الحوت، قال: «فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ. وَلَكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ» (يونان 2: 4). كان يونان مدركًا أنه بهروبه من وجه الرب، صارت هناك مسافة كبيرة تبعده عنه، وأنه لم يَعُد في شركة مع إلهه.

ثم تابع يونان صلاته قائلًا: «قَدِ ٱكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إِلَى ٱلنَّفْسِ. أَحَاطَ بِي غَمْرٌ. ٱلْتَفَّ عُشْبُ ٱلْبَحْرِ بِرَأْسِي» (يونان 2: 5). قال كاتب المزمور: «عَلَيَّ ٱسْتَقَرَّ غَضَبُكَ، وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي … عَلَيَّ عَبَرَ سَخَطُكَ» (مزمور 88: 7، 16).  هكذا أيضًا وُضِع حول رأس الرب يسوع إكليل من شوك (متى 27: 29). «نَزَلْتُ إِلَى أَسَافِلِ ٱلْجِبَالِ. مَغَالِيقُ ٱلْأَرْضِ عَلَيَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ. ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ ٱلْوَهْدَةِ حَيَاتِي أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلَهِي» (يونان 2: 6). «وَضَعْتَنِي فِي ٱلْجُبِّ ٱلْأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ، فِي أَعْمَاقٍ» (مزمور 88: 6).  بسبب عصيان يونان، لم يكن هو الذي اختار بإرادته الدخول إلى بطن الحوت.  لكن في المقابل، الرب يسوع، الذي أطاع طاعة كاملة، ذهب إلى الموت طواعية لأجل الخطاة، بسبب محبته.

وهناك، في بطن الحوت، تبدَّلت أحوال يونان.  فقد عمل الله داخل روح يونان، فذَكَر الرب (يونان 2: 7) في صلاة، وتسبيح، وشكر، قائلًا: «أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ ٱلْحَمْدِ أَذْبَحُ لَكَ، وَأُوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ ٱلْخَلَاصُ» (يونان 2: 9).  فقد أُنقِذت حياة يونان، مع أنه كان لا يزال في بطن الحوت، ولذلك قدم ذبيحة شكرٍ لله.  ليتنا نحن أيضًا «نُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ لِلهِ ذَبِيحَةَ ٱلتَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِٱسْمِهِ» (عبرانيين 13: 15؛ انظر مزمور 116: 16-17). وعندما بلغ يونان تلك المرحلة في روحه، «أَمَرَ ٱلرَّبُّ ٱلْحُوتَ فَقَذَفَ يُونَانَ إِلَى ٱلْبَرِّ» (يونان 2: 10).

«لِلرَّبِّ ٱلْخَلَاصُ» (يونان 2: 9؛ انظر أعمال الرسل 4: 12؛ متى 1: 21؛ 2كورنثوس 6: 2). ما أروع هذا الحق!  فهل نلتَ بالإيمان هذا الخلاص العظيم الذي يقدَّم للجميع مجاناً؟  فإنك إذا رفضتَ هذا الخلاص، لن تستطيع الهروب من غضب الله.

 

ذهاب

 

«ثُمَّ صَارَ قَوْلُ ٱلرَّبِّ إِلَى يُونَانَ ثَانِيَةً قَائِلًا: قُمِ ٱذْهَبْ إِلَى نِينَوَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْعَظِيمَةِ، وَنَادِ لَهَا ٱلْمُنَادَاةَ ٱلَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا» (يونان 3: 1-2).  إن الله إله الاسترداد (مزمور 23: 3؛ تكوين 35: 9).  فقد ردَّ نفس يونان، الذي صار الآن مستعدا لإطاعة كلمته، والذهاب إلى نينوى.  قال الرب يسوع: «أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ» (يوحنا 15: 14).

أرسل الرب يونان حاملًا رسالته، التي لم يكن هذا النبي يملك الحرية لتغيير محتواها.  فلا بد أن تكون الرسالة التي ننادي بها هي رسالة الرب (انظر حزقيال 3: 4؛ إرميا 1: 7).  ما أعظم امتياز أن نتلقَّى رسالة من الرب!  ولذلك، يتحتم علينا أن نسلِّم تلك الرسالة بكل أمانة.

قام يونان، وذهب إلى المدينة المنشودة، بحسب قول الرب. «أَمَّا نِينَوَى فَكَانَتْ مَدِينَةً عَظِيمَةً لِلهِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. فَٱبْتَدَأَ يُونَانُ يَدْخُلُ ٱلْمَدِينَةَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَنَادَى وَقَالَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى» (يونان 3: 3-4). فقد منح الرب أهل نينوى، بنعمته، فرصة أربعين يومًا ليتوبوا. فهو لا يُسَرُّ بالدينونة، بل هي عمله غير المعتاد، أو “فَعْلَهُ ٱلْغَرِيبَ” (إشعياء 28: 21). قال بطرس: »ٱلرَّبُّ … يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لَا يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ … أَنَاةَ رَبِّنَا خَلَاصًا» (2بطرس 3: 9، 15).

دخل يونان نينوى مسيرة يوم واحد فقط.  ولماذا لم يكمل مسيرته؟  لم يكن هناك داعٍ لذلك.  فقد ابتدأ عمل الرب في أحد أطراف المدينة، وسرعان ما انتشر إلى الطرف الآخر. «فَآمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِٱللهِ وَنَادَوْا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحًا مِنْ كَبِيرِهِمْ إِلَى صَغِيرِهِمْ» (يونان 3: 5).  فقد «آمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِٱللهِ» وتابوا.  إن التوبة هي الحركة الإلهية داخل النفس، التي تعقب الإيمان. أما الإيمان، فهو تصديق الله، أي أخذ كلمته على محمل الجد. بتعبير آخر، الإيمان هو قبول النفس للشهادة الإلهية (يوحنا 3: 33).  قال يسوع: «إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلَا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 5: 24).  لقد تاب أهل نينوى، وماذا عنك؟

«نَدِمَ ٱللهُ عَلَى ٱلشَّرِّ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ، فَلَمْ يَصْنَعْهُ» (يونان 3: 10).  تغيَّرت هذه المدينة العظيمة، التي كان شرها قد صعد أمام الرب (يوناني 3: 7-8).  فلدى سماعهم كلمة الرب، رجعوا عن طرقهم الردية وظلمهم.  وفي الواقع، غيَّر الله المدينة عن طريق تغيير الشعب الساكن فيها. «فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي …  وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ ٱلرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ» (2أخبار الأيام 7: 14).

عندما ننظر إلى العالم من حولنا اليوم، نجد الظلم والشر في تزايُد مستمر.  فإن البشر أصبحوا قساة وبلا كابح. دعونا نصلِّي لأجل الذين يكرزون بالإنجيل، الذي هو قُوَّةُ ٱللهِ لِلْخَلَاصِ (رومية 1: 16).

 

مقاومة

 

للأسف، في يونان 4، نجد النبي يقاوم مشيئة الله مرة أخرى. فقد تاب أهل نينوى، وآمنوا بالله بواسطة مناداة عبده يونان. كان من المفترض أن يكون هذا مدعاةً للكثير من الابتهاج والشكر، لكن الأمر لم يكن كذلك لدى يونان.  فقد اغتاظ من الله، لأنه رفع دينونته عن المدينة (يونان 4: 1).

في هذا الأصحاح، استخدم يونان ضمائر المتكلم بأنواعها عشر مرات، وذلك لأن أساس غيظ يونان كان أنانيته.  فقد كان منشغلًا بنفسه، وليس بنعمة الله، ورحمته، ومحبته.  علينا نحن خدام الله أن نعترف بأن ذاك الذي نخدمه هو «إِلَهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ» (يونان 4: 2).  فما أروع أن ندرك أن هذا هو إلهنا.  لكن للأسف، لم يتلذذ يونان بما كان يعرفه عن الله، ولذلك طلب من الرب أن يأخذ نفسه منه (يونان 4: 3).

كتب أيرونسايد يقول: “ربما لا يدرك الكثيرون منا المكانة الكبيرة التي تحتلُّها الذات في مشاعرنا، إلى أن يحدث شيء يمس كرامتنا. وعندئذ، نُظهِر من أيِّ روح نحن.  فإنه يوجد بداخلنا من ميول يونان قدر أكبر مما نريد حتى أن نعترف به لأنفسنا.  لكن الاعتراف بالفشل هو إحدى الخطوات الأولى للخلاص منه”.  قال يونان: «لِأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي» (يونان 4: 3)، وفي المقابل قال بولس: «لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ» (فيلبي 1: 21).  كان لدى الرسول هدف يسعى إليه، وكان يضع المسيح نصب عينيه (انظر فيلبي 3: 7-9).

لا نقرأ أن الرب غضب على يونان، لكنه سأله ببساطة: «هَلِ ٱغْتَظْتَ بِٱلصَّوَابِ؟» (يونان 4: 4).  لم يُجِب يونان هذا السؤال، لكن ثق تمامًا أن هذا السؤال أحدث تأثيره في قلبه، «لِأَنَّ كَلِمَةَ ٱللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين 4: 12).

“وَخَرَجَ يُونَانُ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وَجَلَسَ شَرْقِيَّ ٱلْمَدِينَةِ، وَصَنَعَ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ مَظَلَّةً وَجَلَسَ تَحْتَهَا فِي ٱلظِّلِّ، حَتَّى يَرَى مَاذَا يَحْدُثُ فِي ٱلْمَدِينَةِ” (يونان 4: 5). كان خروج يونان مخالفًا لمشيئة الله. كذلك، «صَنَعَ لِنَفْسِهِ … مَظَلَّةً»، بينما لم يطلب منه الله ذلك.  وما فعله جلب له البؤس.  فإن أعمال الجسد، التي من بينها «تَحَزُّبٌ [“الطموح الأناني”]» (غلاطية 5: 20)، تثمر حتمًا بؤسًا وشقاءً في حياتنا.  فمرة أخرى، لم يتصرَّف يونان وفقًا لفكر الله.

رأى الرب أن ما صنعه يونان لم يجلب له سوى المتاعب، فأعد لعبده، في نعمته، شيئًا أفضل بكثير، وهو يقطينة.  ففرح بها يونان فرحًا عظيمًا. لكن، كانت لا تزال لدى الله دروس يريد أن يلقنها ليونان: «ثُمَّ أَعَدَّ ٱللهُ دُودَةً عِنْدَ طُلُوعِ ٱلْفَجْرِ في ٱلْغَدِ، فَضَرَبَتِ ٱلْيَقْطِينَةَ فَيَبِسَتْ» (يونان 4: 7).  لَمَ أباد الله اليقطينة بهذه السرعة؟ يقول النص إن يونان فرح بهذه اليقطنية فرحًا عظيمًا، لكنه لم يَذكُر أنه شكر الله عليها.  فإن الله ينتظر من أبنائه أن يكونوا شاكرين على عطاياه لهم (أفسس 5: 20).  فقد اعتبر يونان هذه اليقطينة أمرًا عاديًا ضمن حقوقه الطبيعية، لذلك أخذها الرب منه.

الشيء الرابع الذي أعدَّه الرب هو «رِيحًا شَرْقِيَّةً حَارَّةً، فَضَرَبَتِ ٱلشَّمْسُ عَلَى رَأْسِ يُونَانَ فَذَبُلَ. فَطَلَبَ لِنَفْسِهِ ٱلْمَوْتَ، وَقَالَ: مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي» (يونان 4: 8). هذه هي المرة الثانية التي يتمنَّى فيها يونان الموت. لذلك سأله الله: «هَلِ ٱغْتَظْتَ بِٱلصَّوَابِ مِنْ أَجْلِ ٱلْيَقْطِينَةِ؟ فَقَالَ: ٱغْتَظْتُ بِٱلصَّوَابِ حَتَّى ٱلْمَوْتِ» (يونان 4: 9).  كان يونان مغتاظًا وغاضبًا من الله!

في مقابل ذلك، عندما فقد أيوب غلمانه، وماشيته، وأبناءه، «خَرَّ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ: …  ٱلرَّبُّ أَعْطَى وَٱلرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ مُبَارَكًا.  فِي كُلِّ هَذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ وَلَمْ يَنْسِبْ لِلهِ جَهَالَةً» (أيوب 1: 20-22).  فإذ كان يونان لا يزال منشغلًا بنفسه، لم يكن مستعدًّا بعد للتخلِّي عما اعتبره حقًّا من حقوقه.

عزيزي المؤمن، نحن ليس لنا حقوقٌ في هذا العالم الذي رفض الرب يسوع. أما هو، فيملك كامل الحق في السماء وعلى الأرض، إذ قال: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ» (متى 28: 18).  فإن «ٱللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا (أعمال الرسل 2: 36).

نَعلَم أن العالم اليوم أصبح مليئًا بالضجيج في كلِّ اتجاه للدفاع عن حقوق الإنسان. وكم يصدمنا أكثر كثيرًا أن نرى هذا التوجه بقوة في الكنيسة المنظورة!  تجلَّى هذا بوضوح في لاودكية (رؤيا 3: 14)، وهو الاسم الذي يعني “حقوق الناس”. وإن سمات هذه الكنيسة هي سمات كنيسة اليوم.

يُختَتَم سفر يونان بكلمات الرب الأخيرة إلى عبده. «فَقَالَ ٱلرَّبُّ: أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى ٱلْيَقْطِينَةِ ٱلَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلَا رَبَّيْتَهَا، ٱلَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلَا أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْعَظِيمَةِ ٱلَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟» (يونان 4: 10-11). كان ينبغي على يونان أن يشفق على مئة وعشرين ألف طفلًا في المدينة، أكثر من إشفاقه على اليقطينة. فإن إلهنا هو إله الرأفة والرحمة!  (مراثي إرميا 3: 22-23).  «فَإِنَّهُ وَلَوْ أَحْزَنَ يَرْحَمُ حَسَبَ كَثْرَةِ مَرَاحِمِهِ. لِأَنَّهُ لَا يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ، وَلَا يُحْزِنُ بَنِي ٱلْإِنْسَانِ» (مراثي إرميا 3: 32-33).

لم ينبس يونان ببنت شفة.  فقد اخترقت الحقيقة قلبه، وكسرت نعمة الله، ورحمته، ومحبته إرادته العنيدة.  فقد بلغ يونان المرحلة التي بلغها أيوب قبل ذلك بمئات السنين، عندما قال: «هَا أَنَا حَقِيرٌ، فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ؟ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي. مَرَّةً تَكَلَّمْتُ فَلَا أُجِيبُ، وَمَرَّتَيْنِ فَلَا أَزِيدُ» (أيوب 40: 4-5).  فقد اختبر الله برحمته قلبَ عبده، واقتاده إلى مرحلة أصبح فيها عاجزًا عن الكلام، وحرَّره من ذاته.  وهذا هو شوق قلب كلِّ من يسعى إلى التمتع بحضور الرب: «ٱخْتَبِرْنِي يَا ٱللهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا» (مزمور 139: 23-24).

 

ليت فكر المسيح مخلِّصي

يسكن فيَّ يومًا فيوم؛

وبمحبته ورحمته،

يتحكَّم في قولي وفعلي.

وليت محبة يسوع تملأني،

كما تملأ المياه البحار؛

فيتمجَّد هو وأوضَع أنا،

تلك هي الغلبة.

كيت باركلي ويلكينسون (1859-1928)

 

عدد فبراير 2024

عدد يناير و فبراير من مجلة النعمة و الحق لسنة 2024 يحتوى على 8 مقالات ، اقرأ باقى المقالات وشاركها مع اصدقائك
Scroll to Top