(1) أحزانه المضاعفة: 

في كل الرسالة، يتحدث بولس عن الضيق العظيم الذي كان يكابده، ومع أنه رد على التهم القاسية التي وُجهت ضده، إلا أنه لم يغفل في نفس الوقت عن الإشارة إلى آلامه برقة ولطف.

كان الكنز في آنية خزفيه، كان متضايقًا، متحيرًا، مطاردًا، مطروحًا، حاملاً في جسده كل حين إماتة الرب يسوع.  كان الإنسان الخارج يفنى، وكان يئن مثقلآً، كثيرًا ما تاق إلى أن يتغرب عن الجسد ليستوطن عند الرب (2كو5: 8).

وفي إحدى المناسبات يذكر – ضمن أسباب الضيق الأخرى- أسهاره وأصوامه المكررة، والضربات والسجون، والاضطرابات والأتعاب، وضغط الأعمال اليومية (2كو6).

لكن، لابد أنه كانت هنالك أسباب أخرى أعمق، لعلها كانت استمرار القذف في حقه، وتحريف تعاليمه، أو فتور محبة الكثيرين من نحوه، أو أن بعض الكنائس الفتية التي أنفق في سبيلها الكثير من الصلوات والدموع، برهنت على أنها فاشلة؛ ولكن مهما كانت تلك الأسباب، فإن آلام المسيح يبدو سأنها غمرته.

على أن أبا الرأفة، واله كل تعزية، اقترب إليه وعزاه، كانت عذبة وشجية جدًا، تلك الأغنية الحلوة التي تسللت إلى قلب ذلك الخادم المتألم، والتي تكونت من الفقرات التالية: شهادة ضميره أنه خدم ببساطة وقداسة، أمانة الله التي لا يتطرق إليهاالوهن أو الفشل، إنارة معرفة الله التي أضاءت بوضوح في نفسه، شُكر الكثيرين لله الذي نشأ من آلامه، رؤية ثقل المجد الابدي، عربون الروح في نفسه، تأكده من أنه قد رأى مقدما بناء الله الذي ينتظره في السموات، الشعور المبارك بأنه سفير المسيح، وعامل مع الله، إن الله يعرف كيف يعزي أولاده، لقد فاضت في نفسه ينابيع من التعزيات الإلهية من أعماق مجهولة، وهي لا تزال مستعدة أن تفيض في نفسك وفي نفسي؛ وهكذا، إن كان إنساننا الخارج يفني، فالداخل يتجدد، يومًا فيومًا.

ورغمًا عن كل ذلك، فإن هذه النفس، التي تعاظمت جدًا آلامها وأهوالها، لم تقلل لحظة واحدة من جهودها التي كرستها لخدمة قضية الله؛ فإن رسائله تفيض بالإشارات إلى المساعدات التي كان يجمعها للقديسين الفقراء في أورشليم من كل الكنائس التي أسسها.  في إحدى المرات، يحض كنيسة كورنثوس، بذكر مكدونية، كمَثَل يُحتذى به، ومرة أخرى، يعدد التحذيرات ضد افتراءات الذين نسبوا إليه أنه إنما ينتفع شخصيًا من هذه الإعانات التي يجمعها، هنالك إشارات أيضًا لأتعابه، ليس فقط في الكنائس التي عرفته واحترمته، بل أيضًا في المناطق الجديدة التي لم تُكتشف بعد؛ وإذ كان يطمع في الكرازة بإنجيل المسيح، ليس حيث سُمِّي المسيح، ولم يشأ أن يبني على أساس لآخر، فإنه كرز بالإنجيل كرازة كاملة، حتى إلى الليريكون، الواقعه على البحر الإدرياتيكي.

إيه ايها الرجل الفريد، إنه لم يعطلك أي ثقل عن أن تحلق بروحك الطاهرة، بل كما أن طائرة الصبي يجب أن تثقل ليزداد تحليقها إلى فوق، هكذا أكسبتك آلامك أشواقًا جديدة لتخليص النفوس، ومطامح جديدة لخدمة ربك.  لقد نلت جزاءك في قلوب الأمم التي أحبتك، ولا تزال تحبك حتى نهاية العالم الحاضر، كما كان لك فَلِي «افْتِخَارٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَةِ مَا ِللهِ».  نحن نعظم المسيح فيك، لأننا واثقون أنه عمل فيك لأجل طاعة الأمم، بالقول والفعل    « بِقُوَّةِ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، بِقُوَّةِ رُوحِ اللهِ» (رو15: 17، 19).

(2) أصدقاؤه: 

لبعض الناس قوة سحرية عجيبة لجذب الآخرين إليهم، فيهم مغناطيسية روحية نحو الآخرين، يتجمعون حولهم، ويقتنون خطواتهم، كانت لبولس هذه القوه بدرجة عظيمه جدًا، فليلون جدًا هم الذين كانوا محبوبين مثله، كان محبًا لمه أحبه، لذلك فلابد أنه وجد بهجة خاصة عندما ذهب إلى كورنثوس أخيرًا، إذ رأى نفسه مركزًا لمجتمع كتبيرمن الأصدقاء المحبين.

هنالك كان تيموثاوس “ابنه المحبوب” “الابن الصريخ في الإيمان”، وتيخيكس “الأخ الحبيب والخادم الأمين للرب الذي كان معه في سجنه الأخير، وتيطس “شريكه والعامل معه”، الابن الصريح حسب الإيمان المشترك، ولوقا “الطبيب الحبيب” الذي رافقه إلى روميه، وكان معه إلى النهاية، وتروفيمس الأفسسي، الذي كان يتمنى أن يلازمه حتى الموت، لو لم يعقه المرض، ويؤخره في ميليتس، وأرسترخس وسكوندس، ولعل الأول حاول أن يشاركه سجنه ليتمكن من خدمة صديقه الحميم، وسوسيباترس، نسيبه الذي كان معروفًا جيد المعرفة لكنيسة رومية، وغايس، الذي كان يذكره بتلك الرحلة التبشيرية الأولى التي وصلت به إلى دربة، وغايس الآخر، الذي كان مضيقه وقتذ، وياسون، الذي خبأه في تسالونيكي معرضًا حياته للخطر.

وهؤلاء إنما كانوا حفنة قليلة من أصدقائه العديدين، عندما كان يكتب في هذا الوقت من كورنثوس، بعث بتحياته إلى ستة وعشرين من أصدقائه، كلٌ باسمه، في الأعداد الأخيرة من رسالة رومية، مثل بريسكلا وأكيلا اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياته، وأبنتوس حبيبه، وأمبلياس حبيبه في الرب، وبرسيس المحبوبة، وكثيرين غيرهم؛ وأن كان قد أصبح مبغضًا أكثر من الجميع، فقد كان في أشد الحاجة للمحبة أكثر من الجميع، ولذلك، فقد كانت تتجمع حوله قلوب الكثيرين من المحبين التي كان عددها يتزايد على مر الأيام، وأية محبة، في تاريخ المحبة، أعظم من تلك التي تتحد النفوس في المسيح.

لقد كسـبت قلوب الإخوة والأخوات

لايـزال البعض أحياء على الأرض

والـبعض قـد رقدوا

هوذا الجميع يرحبون بي

كما يرحب بي رأس أسرة الله التي بلا لوم

ويالها من شركة مقدسة، تلك التي تجمعت بين هذه النفوس الكريمة في كورنثوس، أثناء تلك الشهور الثلاثة الخالدة التي كتبت فيها الرسالتان إلى غلاطية ورومية.  ولعل الحجج الدامغة التي تضمنتها هاتان الرسالتان، قد قيلت أولاً في أسماعهم، فإليهم أولاً قدم الصورة الأولى لما هو مدون في الإصحاحين الخامس والثامن من رسالة رومية، أو الإصحاحين الثالث والخامس من رسالة غلاطية، ولعل الأحاديث التي تمت في أوقات متأخرة من الليل عن مصير إسرائيل، ومشورة الله، وطريقة معاملة الضمائر الضعيفة، قد جرت فيها مناقشات طويلة، وأبحاث عميقة.

أخيرًا، كان من الضروري للجماعة أن تتفرق، فإن بولس كان يشتاق للذهاب إلى أورشليم لحضور عيد الفصح، ولذكلك حُجِزَ له مكان في إحدى السفن التي كانت تنقل الحجاج كل ربيع من كل موانيء بحر اليونان إلى فلسطين، على أنه، قبل أن يستقل السفينة، اكتُشِفَت مؤامرة دبرها اليهود لقتله، فاضطر أن يغير طريقه، وسار في رفقة بعض الأصدقاء لحراسته إلى مكدونية، وأخذ سفينة من ترواس، وانتهز فرصة هذا التغيير في برنامجه لكي يودع مرة أخرى تلك الجماعة المحبوبة في فيلبي التي أعزها جدًا، ثم أسرع لينضم مرة ثانية إلى جماعة الأصدقاء الأعزاء الذين كانوا ينتظرونه في ترواس، والذين حرصوا على أن يعنوا به، وبالإعانات التي جمعها بجهد شديد.

(3) تشاؤم أليم: 

لابد أن تلك الرحلة من ترواس إلى الجنوب بمحاذاة شواطيء آسيا الصغرى، والتي كانت السفينه تسير فيها نهارًا، وترسو ليلاً، قد سببت آلامًا نفسية شديدة لرفقاء بولس، أكثر مما سببته له هو شخصيًا.

لم يكن لديه شك في نتيجتها، فقد ذهب إلى أورشليم مقيدًا بالروح، واثقًا أن وثقًا وشدائد تنتظره هنالك، كما في كل مدينة أخرى، وقد شهد له الروح القدس بهذا شهادة قاطعة، وقد أطال كلامه في ترواس إلى نصف الليل، وبعث برسالة إلى قسوس كنيسة أفسس ليوافوه في ميليتس، لأنه علم أن جميع الذين كرز بينهم بملكوت الله، لن يروا وجهه ثانية، ثم ودع الجماعات القليلة التي ودعته وداعًا حارًا، كأنهم قد أيقنوا أنه الوداع الأخير، وما أعلنه الرح القدس على لسان التلاميذ في مدينة صور، كان مجرد تأييد لما أعلنه إلى قلب بولس مباشرة (أع20: 23).  وما تنبأ به أغابوس رمزيًا، كان مستعدًا لسلوك أي طريق يشير به يعقوب بقصد حجزه في الطبقة العليا من الهيكل، بعيدًا عن الطرقات التي كانت مكتظة بمناسبة العيد بالجموع الصاخبة، فإنه أيقن أن كل هذا لا يفيد، ولذلك، لم يعجب عندما رأى نفسه وسط الغوغاء الصاخبين، مسرعين به إلى الدار السفلية قاصدين قتله، دون انتهاك حرمة الهيكل.

أما احباؤه، فقد وقعت من نفونسهم تلك الإنذارات بالنكبة المقبلة، وقع الصاعقة.  يصور لنا لوقا منظر بيت فيلبس مضيفهم في قيصرية، والذي لابد أن بكون بولس قد تبادل معه بعض الذكريات الأليمة عن استفانوس، ويصوره لنا تصويرًا مثيرًا للشجون وينحدر أغابوس إلى هناك من أورشليم، ويحل منطقة بولس، ويربط بها نفسه، ويتكلم بقوة الروح القدس، معلنًا أن اليهود سيفعلون هكذا بصاحبها.  ويقول لوقا بعد ذلك « فَلَمَّا سَمِعْنَا هذَا طَلَبْنَا إِلَيْهِ نَحْنُ وَالَّذِينَ مِنَ الْمَكَانِ أَنْ لاَ يَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيم»، ثم بكوا بكاءً حارًا كسر قلب بولس، على حد تعبيره.

على أنه كان ثابت الجنان بشكل عجيب، فكان يبدو كأنه ذاهب إلى بيت العرس، لا إلى بيت النوح، ألم تكن روحه خُطِبَت لربه، والموت واسطة لنقله إلى حضرته، وهذا أفضل جدًا من أفضل أصحابه؟  لقد كان مستعدًا ليس لأن يُربط فقط، بل لأن يموت أيضًا في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع، حقًا إنه لم يحسب حسابًا لشيء، ولا كانت نفسه ثمينة عنده، إزاء إتمام سعيه بفرح، والخدمة التي أخذها من الرب يسوع، ليهد ببشارة نعمة الله.

نعم بالحيـاة والموت، أي الأحزان والآلام

سوف أجد فيـه كل كـفايتي

يسوع هو النهاية لأنه هو البداية

يسوع هو البداية لأن النهاية هي يسوع