أبريل 2024

حياة بولس

الفصل الثامن عشر : تقدم الإنجيل (في1: 12، 13)

بقلم: ف.ب.ماير

كان هذا هو موضوع اهتمام بولس الوحيد، كان أكثر من مستعد لتحمل الآلام إلى النهاية، إذ آل ذلك إلى تقدم إنجيل محبة الله، وعظيم الرب يسوع.  والآن، يقف فوق قمة السنين الماضية ويتأمل الأمور التي تمت له فيها، فيغتبط أشد الاغتباط إذ استطاع أن يعلن لإخوته في فيلبي أنها قد آلت أكثر إلى ازدياد تقدم الإنجيل.

إن مجال هذا الكتاب المحدود يمنعنا من سرد كل تفاصيل رحلته من هيكل أورشليم إلى البيت الذي استأجره في رومية، ولكن لنتأمل على ألأقل في خطواتها المتتابعة في ضوء هذه الحقيقة التي ملأت قلبه فرحًا، وهي أن جميع هذه الخطوات قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل؛ لأنها أعطته الفرصة لإظهار الصفات المسيحية الحقة، وثانيًا؛ لأنها مكنته من إعطاء شهادته ليسوع أمام أعلى المحاكم في العالم.

 

1– كانت هناك فتنة مروعة في دار الهيكل:

 

      القى اليهود الذين من آسيا – بقيادة اسكندر النحاس على الأرجح جدًا – القبض على بولس بحجة أنه أدخل تروفيمس، الذي يعلمون أنه أفسسي، إلى الدار المخصصة لليهود. بعد ذلك جروه أسفل الدَرَج وضربوه بوحشية، قاصدين قتله لدى وصولهم إلى أسفل، وبكل جهد أنقذه ليسياس وجنوده الذين اندفعوا بسرعة من قصر أنطونيا المجاور، واحاطوا به بدروعهم وحملوه على أكتافهم لإنقاذه من الشغب العنيف، ولقد استطاع أن يتحدث وسط الشغب بلغتهم، فسرد رواية يسوع المقام من الأموات، وكان حديثه بكل لباقة، حتى أنهم لم يسعهم إلا الإصغاء، ولم يكن ذلك كله نتيجة لمجرد هدوء نفسه الطبيعي.  وضبط أعصابه، بل أنه كان مستريحًا في أحشاء يسوع، وراغبًا في أن يعظم سيده.

كان هنالك قوة في احتجاجه الهاديء أمام اولئك الذين أمروا أن يفحصوه بضربات، وفي تصريحه بأنه حصل على الرعوية الرومانية، الأمر الذي لابد وأن يكون قد ملأ قلوبهم إعجابُا واحترامًا، إذ لم يكن أمامهم مجرم عادي.

استاء البعض من عدم لياقة تصرفاته، عندما وقف أمام السنهدريم في اليوم التالي، على أن حنانيا، الذي جلس لمحاكمته، كان قد عُزِلَ فعلاً من رئاسة الكهنوت، ولو أنه كان لا يزال فعلاً يمارس هذه الوظيفة، فالفريسيون اعترفوا بأنهم يؤمنون بالقيامة من الأموات، ومع ذلك، رفضوا الاعتراف بأن يسوع قد قام، وأما بولس، فإنه من الناحية الخرى، حاول أن يثبت، ليس فقط أن هنالك قيامة من الأموات، بل أيضًا أن هنالك قيامة قد حدثت فعلاً.

لقد قدّره الرب كل التقدير، وتقبل جهوده التي بذلها لاستخدام مناظر المحاكمة هذه لمجد سيده، وهذا ما أكده له بالرؤيا التي ظهر له فيها آمرًا إياه بأن يتشجع ولا يخاف، ومؤكدًا له بأن الشهادة التي شهدها من فوق دَرَج القصر، وفي قاعات السنهدريم، سوف تتكرر في رومية نفسها، قلب الإمبراطورية، حيث يسمعها كل الأمم.

لابد أن مسلكه كان في غاية النبل والبطولة، وإلا لما تجاسر ابن أخته – الذي اندس بين أعدائه واعتبر يهوديًا متعصبًا – أن يخاطر بحياته لكشف المؤامرة التي دبرها بعض اليهود الغيورين، إذ حرّموا أنفسهم بقسم مغلظ، أن لا يأكلوا، ولا يشربوا، حتى يُخرِسوا إلى الأبد، ذلك اللسان الذي كانوا يخشونه، أكثر مما خشوا كل جنود فيلكس.


 

(2)- محاكماته:

حالما اكتُشفت تلك المؤامرة، أخذته للحال، حامية قوية من المعسكر ليلاً، وأسرعوا به إلى انتيباتريس، على بعد خمسة وثلاثين ميلاًا من أورشليم، وفي اليوم التالي قطعوا خمسة وعشرين ميلاً أخرى حتى وصلوا إلىقيصرية، ليحاكم أمام فيلكس، والى اليهودية الروماني، ولكنه، إذ وقف أمامه في مناسبات متعددة أظهر بأنه لا يبالي بذاته.  وكل ما كان يعنيه هو انتهاز كل فرصة يقف فيها موقفًا عامًا، فيشرح طبيعة “الطريق”،ويتناقش مع قاضيه عن الإيمان بيسوع المسيح، وقد تكلم فعلاً بقوة في إحدى المناسبات عن البر والتعفف، والدينونة العتيدة أن تكون –أمام فيلكس والمرأة التي كان يعيش معها ف الزنى- وكان الكلام قويًا، لدرجة أن فيلكس ارتعد إذ اضطره ذلك الأسير أن يراجع حياته المخزية في ضوء الضمير المتيقظ.

لما حل فستوس محل فيلكس، الذي كان قد عُزِل بخزي، استطاع الرسول في ظرف أيام وجيزة، أن يؤثر على الزائر الجديد، بإيمانه في يسوع الذي مات، والذي أكد بأنه لا يزال حيًا، حتى أن الوالي استطاع أن يقص الرواية بدقة عجيبة للملك أغريباس، الذ كان قد قدم مع برنيكي أخته، ليسلم على ممثل الامبراطور الجديد.

ولكن، لعل أعظم فرصة انتهزها بولس، وبذل فيها كل كفايته، كانت يوم استطاع أن يكرز بالإنجيل لجماعة ضمت كل وجو وأغنياء وأعيان البلاد، كان حاضرًا الاجتماع؛ فستوس، والملك، واخته، جالسين على كراسي ذهبية، وأمراء الحامية، ورجال المدينة المقدمين.  ويا للفارق العظيم بين العظمة التي تجلى بها الحاضرون، وبين ذلك الأسير الذليل، المقيد بسلاسل، ولكنه في الواقع، رغم أنه كان ينحني تحت ثقل ستين من السنين، وتحت عبء آلام وأهوال كثيرة، فإنه كان أنبل وأجمل من كل الجماهير بفخامة مظهرهم.   يا للعظمة التي بها كرز بالمسيح في ذلك اليوم تحت ستار الدفاع عن نفسه، لقد تحدث عن آلام الرب وقيامته، عن إتمام نبوات موسى والأنبياء، عن تفتيح الأعين، عن الرجوع من الظلمة إلى النور، وعن شروط غفران الخطايا والحصول على نصيب مع المقدسين، تكلم عن هذه المواضيع بكل ما وسع من ذكاء ولباقة وغيرة، حتى أن الوالي الروماني حسبه مجنونًا، والملك استخدم كل ذكائه لكي يتملص من تلبيية دعوة ذلك الأسير الشائكة.


 

(3 )- قيصرية: 

بقى بولس كأسير، سنتين كاملتين، في إحدى غرف حرس قيصر قيصرية القديم، ولكنه كان مسموحًا له برؤية أصقائه، وتلقى مساعداتهم، ولابد أن القديسين في قيصرية، وما حولها، سُروا جدًا لانتفاعهم بهذا الامتياز، ويقول التقليد، إن لوقا في تلك الفترة كتب الإنجيل الثالث بالاشتراك مع صديقه، وتحت إرشاده، إن صح هذا، فيالها من تعزية كبرى للإثنين كليهما أن يتتبعا كل الأشياء من الأول بتدقيق، كما سلمها إليهما الذين كانوا منذ البدء، معاينين وخدامًا للكلمة.

كانت هاتان السنتان مثمرتين جدًا في ناحية أخرى، فإن تقدير الحق الذي في يسوع، ازداد نضوجًا وتعمًا، قارن رسائل تسالونيكي، وكورنثوس، وروميه، وغلاطية، برسائل أفسس، وفيلبي، وكولوسي؛ تتبين بسهولة مقدار تقدمه في المعرفة.  تجد القليل من المناقشات الجدلية، والدفاع عن مشاعره وأعماله، والكثير من الكلام عن وحدة المؤمن الجوهرية بربه، والدفاع عن مشاعره وأعماله، والكثير من الكلام عن وحدة المؤمن الجوهرية بربه، القليل من المناقشات التعليمية عن عمل المسيح، والكثير من التفاني في شخصه، القليل من العهد القديم، والكثير من العهد الجديد، والملك والحياة في السماويات، بالبركة قضى هاتين المدتين بين جدران ذلك القصر القديم، مقيدًا بالسلسة التي سمع صوتها فستوس وضيوفه، فرغم أن روحه الوثابة قد تعطلت عن جهودها المتواصلة، وأسفارها المتوالية، إلا أن هاتين السنتين فد تحولتا للخير، لأنهما مكنتاه من أن يقدم رسائله النفسية جدًا التي كتبها في السجن.

واخيرًا، انتهت مدة سجنه، فإن السلطات الدينية لم تكف عن طلب تسليمه لتحاكمه، الأمر الذي دبرت العناية الإلهية أن يرفضه الولاة الرومانيون، لأنهم علموا، كما علم بولس أيضًا، أن محاكمة كهذه لا يمكن أن تنتهي إلا بنهاية واحدة معروفة.

وأخيرًا، عندما أظهر فستوس بعض علامات الخضوع، طالب بولس بحقه – كأحد الرعايا الرومانيين – أن ترفع دعواه إلى قيصر نفسه؛ أولاً: للتخلص من تحامل اليهود المحليين، وثانيًا: لكي يضمن للكنيسة المسيحية نفس الحقوق التي كانت مقررة لمجمع اليهود، وثالثًا: لكي يتمم أمنيته التي طالما كان يحلم بها نحو المناداة بالإنجيل في رومية.

لم يكن ممكنًا رفض ذلك الطلب، إلى قيصر رفع دعواه، وإلى قيصر يجب أن يذهب، وبأسرع ما يمكن، وُضع في حراسة قائد مائة لينقله إلى عاصمة الإمبراطورية.

(4)- أخيرًا حل موعد الرحلة:

 

  ويبدو أن الرسول حاول بذل كل جهوده لاستخدام كل خطوة فيها لمجد ربه، كانت وجهة نظره: لي الحياة هي المسيح، كان يسحب نفسه كل حين في كل مكان مدينًا لكل الناس، وملزمًا بأن يسدد لكل إنسان جزءًا من الدين الخطير الذي عليه نحو فدائه.

وأبحر الجميع، أولاً في سفينة شراعية عادية، ثم من ميرا في سفينة اسكندريه معدى لنقل القمح، وكانت إحدى سفن الأسطول العظيم المستخدم بصفة مستمرة لتموين رومية، لم يذعن قائد السفينة لمشورة بولس، الذي كان معتبرًا حتى في هذا الموقف من الرحلة، رجلاً ممتازًا محنكًا، بل حاول أن يعبر الخليج المكشوف، من المواني الحسنة إلى فينكس، وكلتاهما جنوب كريت، ولكن الريح تغير في منتصف الطريق، وفجأة هبت عاصفة عنيفة من الجبال، ودفعت السفينة الكبيره إلى البحر، وفي الفترة الوجيزة التي سافروا فيها في مأمن من الريح تحت جزيرة كلودي الصغيرة، تمكنوا بالجهد من أن يملكوا القارب الذي كانت تخبطه المياه خلفهم، وحزموا السفينة بحبال حولها لتقويها، ولم يكن هنالك سوى أن يُحملوا في عرض البحر، بعد ثلاثة أيام دعى الجميع – حتى الأسرى – لتخفيف السفينة بطرح البضاعة وباقي المنقولات في الماء.  وبعد أن استمرت العاصفة أيامًا كثيرة، لم تظهر فيها الشمس أو القمر، انتُزع كل رجاء في النجاة.

عندئذ، تقدم بولس هادئًا، ثابت الجنان، مطمئنًا، برسالة الله، لينعش نفوسهم الخائرة، ويشدد عزائمهم الفاترة، كان عبد الله الأمين نائمًا وسط العاصفة كما فعل بطرس قبل استشهاده، وقد خدمته ملائكة كبطرس أيضًا، وفي وسط ذلك الجو المكفهر، تقدم إليه أحد هذه الأرواح الخادمة، بكلمات مطمئنة من العرش، أن لا يخاف، مؤكدًا له أنه لابد أن يقف أمام قيصر.  وواح أن الرسول كان يصلي من قبل من أجل نجاة البحارة، لأن الملاك أضاف على ذلك قائلاً: «وَهُوَذَا قَدْ وَهَبَكَ اللهُ جَمِيعَ الْمُسَافِرِينَ مَعَكَ»، هنا، كانت الفرصة للكرازة بالإيمان بالله، والثقة بقوة الصلاة.

وإذ كان بولس دوامًا سريع الخاطر، تبين محاولة البحارة النزول إلى القارب، ولكنه بحكمة أخرى، غير الحكمة البشرية، بحكمة إلهية، ونعمة أزلية، أخذ خبزًا وكأنه متقدم إلى مائدة الرب في كورنثوس أو فيلبي، شكر الله أمام الجميع، وكسر وابتدأ يأكل.

وعندما وصلوا إلى شاطئ مالطة في صباح أحد أيام نوفمبر القاسية البرودة، كان يبدو أنه لم يبق بعد شيء يمكن عمله لتقدم الإنجيل، ولكن، عندما سقطت الأفعى عن يد بولس، وشفى أبو مقدم الجزيرة من الدوسنتاريا، استجابة لصلاته، وشُفى أيضًا كل من كان مريضًا بالجزيرة بلمسته، فإنه عمل الكثير ليعظم ذاك الذي كان يفخر بأن يقول عنه دوامًا:« الَّذِي أَنَا لَهُ وَالَّذِي أَعْبُدُهُ».


 

(5)- إلى رومية:

 هل خان قلبه، عندما اقترب أخيرًا من المدينة، وبدأت تظهر رويدًا بعض علامات عظمتها، وحياتها الصاخبة؟  لطالما فكر في هذه اللحظة وتاق إليها، عندما كتب إلى كنيسة رومية قبل ذلك بثلاث سنوات قال:« لأَنِّي مُشْتَاقٌ أَنْ أَرَاكُمْ، لِكَيْ أَمْنَحَكُمْ هِبَةً رُوحِيَّةً».  لقد اعترف بأنه كثيرًا ما صلى وقصد أن يذهب إليهم، ولكنه لم يكن يخطر بباله أن يأتيهم بهذه الحالة، واحدًا من جماعة من الأسرى تحت حراسة بعض الجند الرومانيين، ولكنه كان يستطيع، وهو في وثقه، أن يقدم إليهم خدمة أكثر انتاجًا مما لو كان حرًا، فإنه لو كان حرًا لذهب من مجمع إلى مجمع، ولكن لم تكن تتاح له الفرصة للتكلم مع الحرس الإمبراطوري وبيت قيصر.

 وهكذا يستجيب الله لصلاتنا بطرق لم نكن نتوقعها، في بعض الأحيان، نضع قلوبنا على بعض المشروعات، ولكننا نظل سنوات نرى أن هناك جبالاً من الصعوبات تحول دون تحقيقها، فنصلي، ونبذل الجهود المضنية من أجلها نهارًا وليلاً، وتحدثنا نفوسنا أننا سنفرح يومًا بتحقيق آمالنا المشتهاة، ولكننا عندما نصل رومية أخيرًا، يبدو كأننا أسرى مكبلة أيدينا بالأغلال.

ولعل الله تمم رغبة بولس نحو رؤية رومية بهذه الطريقة لسببن؛ الأول: لحمايته في الطريق، والثاني: ليكون لديه عدد وافر من المستمعين الذين كانوا ينتظرونه، وقد يتطلب هذان السببان ذهابنا إلى رومية في سلاسل، لا رومية دون السلاسل، ولا السلاسل دون رومية، بل رومية والسلاسل معًا.

فلا تنزعج إذا ما وجدت محدودية في حياتك أو ضعفات؛ إنها لازمة كثقل للموازنة، ولتقديم بعض الفرص إليك، إن واجهت العاصفة وانكسار السفينة، قائد المائة، وقائد السفينة، الجندي والجلاد، قيصرية ورومية، فاعلم أن كل هذه جزء من الخطة المرسومة، كلها تعمل للخير، كلها تعمل للخير، كلها تتمم قصد الله، وتؤهلك لما كنت تتمناه لنفسك في أحسن حالاتك.

عدد أبريل 2024

عدد مارس و أبريل من مجلة النعمة و الحق لسنة 2024 يحتوى على 8 مقالات ، اقرأ باقى المقالات وشاركها مع اصدقائك
Scroll to Top